سورة البقرة - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا} بيانٌ لتبايُن أحوالِهم وتناقضِ أقوالهم في أثناء المعاملة والمخاطبةِ حسَب تباينِ ومَساقِ ما صُدِّرت به قصتُهم لتحرير مذهبهم والترجمةِ عن نفاقهم، ولذلك لم يُتعرَّضْ ههنا لِمُتَعَلَّق الإيمان فليس فيه شائبةُ التكرير.
روي أن عبدَ الله بن أبيّ وأصحابَه خرجوا ذاتَ يوم فاستقبلهم نفرٌ من الصحابة، فقال ابن أبيَ: أنظروا كيف أردُ هؤلاءِ السفهاءَ عنكم، فلما دنَوْا منهم أخذ بيد أبي بكرٍ رضي الله عنه فقال: مرحباً بالصّدّيق سيدِ بني تيم، وشيخِ الإسلام، وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، الباذلِ نفسَه ومالَه لرسول الله، ثم أخذ بيد عمرَ رضي الله عنه فقال: مرحباً بسيد بني عديّ، الفاروقِ القويّ في دينه الباذلِ نفسَه ومالَه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد علي كرم الله وجهه فقال: مرحباً بابن عمِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وخَتَنِه، وسيدِ بني هاشم ما خلا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وقيل: قال له علي رضي الله عنه: يا عبدَ الله اتق الله، ولا تنافقْ، فإن المنافقين شرُ خلق الله تعالى، فقال له: مهلاً يا أبا الحسن أفيَّ تقول هذا، والله إن إيماننا كإيمانكم، وتصديقَنا كتصديقكم ثم افترقوا فقال ابن أبيَ لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت، فإذا رأيتموهم فافعلوا مثل ما فعلت، فأثنَوْا عليه خيراً، وقالوا: لا نزالُ بخير ما عشتَ فينا. فرجع المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك فنزلت.
واللقاءُ المصادفة، يقال لقِيته ولاقَيْته أي صادفته واستقبلتهُ، وقرئ {إذا لاقَوْا} {وَإِذَا خَلَوْاْ} من خلوتُ إلى فلان، أي انفردت معه، وقد يستعمل بالباء، أو من خلا بمعنى مضى، ومنه القرونُ الخالية، وقولُهم: خلاك ذمٌّ أي جاوزك ومضى عنك، وقد جُوّز كونُه من خلوتُ به إذا سخِرْتُ منه، على أن تعديته بإلى في قوله تعالى: {إلى شياطينهم} لتضمُّنه معنى الإنهاء، أي وإذا أَنهَوْا إليهم السخرية الخ.
وأنت خبير بأن تقييدَ قولهم المحكيّ بذلك الإنهاءِ مما لا وجهَ له، والمرادُ بشياطينهم المماثلون منهم للشيطان في التمرد والعناد، المظهرون لكفرهم، وإضافتُهم إليهم للمشاركة في الكفر، أو كبارُ المنافقين، والقائلون صغارُهم، وجعل سيبويهِ نونَ الشيطان تارةً أصلية فوزنُه فَيْعالٌ، على أنه من شطَنَ إذا بعُدَ، فإنه بعيدٌ من الخير والرحمة، ويشهد له قولُهم تَشَيْطن، وأخرى زائدة فوزنه فعلان، على أنه من شاط أي هلك أو بطَل، ومن أسمائه الباطل، وقيل معناه هاج واحترق {قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ} أي في الدين والاعتقاد لا نفارقكم في حال من الأحوال، وإنما خاطبوهم بالجملة الاسمية المؤكدة، لأن مُدّعاهم عندهم تحقيقُ الثبات على ما كانوا عليه من الدين، والتأكيدُ للإنباء عن صدق رغبتهم، ووفورِ نشاطِهم، لا لإنكار الشياطين، بخلاف معاملتهم مع المؤمنين، فإنهم إنما يدّعون عندهم إحداثَ الإيمان لجزمهم بعدم رواج ادعاء الكمال فيه أو الثبات عليه {إِنَّمَا نَحْنُ} أي في إظهار الإيمان عند المؤمنين {مُسْتَهْزِءونَ} بهم من غير أن يخطرُ ببالنا الإيمانُ حقيقةً، وهو استئنافٌ مبني على سؤالٍ ناشىءٍ من ادعاء المعية كأنه قيل لهم عند قولهم إنا معكم فما بالُكم توافقون المؤمنين في الإتيان بكلمة الإيمان، فقالوا: إنما نحن مستهزئون بهم فلا يقدح ذلك في كوننا معكم، بل يؤكده وقد ضمِنوا جوابهم أنهم يُهينون المؤمنين، ويُعدّون ذلك نُصرةً لدينهم.
أو تأكيدٌ لما قبله، فإن المستهزىء بالشيء مُصرٌّ على خلافه، أو بدلٌ منه، لأن مَنْ حَقّر الإسلامَ فقد عظّم الكفرَ، والاستهزاءُ بالشيء السخرية منه، يقال: هَزَأتُ واستهزأت بمعنى، وأصله الخِفة من الهُزء، وهو القتل السريع، وهزأ يهزأ مات على مكانه، وتَهْزأُ به ناقتُه أي تُسرع به وتخِف.


{الله يَسْتَهْزِىء بِهِمْ} أي يجازيهم على استهزائهم، سمِّي جزاؤه باسمه كما سُمي جزاءُ السيئة سيئةً إما للمشاكلة في اللفظ، أو المقارنة في الوجود، أو يرجِعُ وبالُ الاستهزاء عليهم، فيكون كالمستهزىء بهم، أو يُنزل بهم الحقارةَ والهوانَ الذي هو لازمُ الاستهزاءِ أو يعاملهم معاملةَ المستهزىءِ بهم. أما في الدنيا فبإجراء أحكامِ المسلمين عليهم، واستدراجِهم بالإمهال والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان، وأما في الآخرة فبما يروى أنه يفتح لهم بابٌ إلى الجنة فيُسرعون نحوه فإذا صاروا إليه سُدَّ عليهم الباب، وذلك قوله تعالى: {فاليوم الذين ءامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ} وإنما استؤنف للإيذان بأنهم قد بلغوا في المبالغة في استهزاء المؤمنين إلى غاية ظهرت شناعاتها عند السامعين، وتعاظَمَ ذلك عليهم حتى اضْطَرَّهم إلى أن يقولوا ما مصيرُ أمرِ هؤلاء وما عاقبةُ حالهم، وفيه أنه تعالى هو الذي يتولى أمرَهم ولا يُحوجهم إلى المعارضة بالمثل، ويستهزىء بهم الاستهزاءَ الأبلغَ الذي ليس استهزاؤهم عنده من باب الاستهزاء، حيث ينزلُ بهم من النَكال ويحِلُّ عليهم من الذل والهوان ما لا يوصف، وإيثارُ صيغةِ الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار، كما يعرب عنه قوله عز قائلاً: {أَوْ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} وما كانوا خالين في أكثر الأوقات من تهتكِ أستارٍ وتكشفِ أسرارٍ، ونزولِ آيةٍ في شأنهم، واستشعارِ حذَرٍ من ذلك، كما أنبأ عنه قوله عز وجل: {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُون} {وَيَمُدُّهُمْ} أي يزيدهم ويقويهم مِنْ مدَّ الجيش وأمده إذا زاده، ومنه مددتُ الدواةَ والسِراج إذا أصلحتهما بالحِبْر والزيت وإيثارُه على يزيدهم للرمز إلى أن ذلك منوطٌ بسوء اختيارهم لما أنه إنما يتحقق عند الاستمداد وما يجري مَجراه من الحاجة الداعية إليه، كما في الأمثلة المذكورة، وقرئ {يُمِدُّهم} من الإمداد وهو صريح في أن القراءة المشهورة ليست من المد في العمر، على أنه يستعمل باللام كالإملاء، قال تعالى: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً} وحذفُ الجار وإيصالُ الفعل إلى الضمير خلافُ الأصل لا يصار إليه إلا بدليل {فِي طغيانهم} متعلق بيمُدُّهم، والطغيانُ مجاوزة الحد في كل أمر، والمراد إفراطُهم في العتو، وغلوُّهم في الكفر، وقرئ بكسر الطاء، وهي لغة فيه كلِقْيانٍ لغةٌ في لُقيانٍ، وفي إضافته إليهم إيذانٌ باختصاصه بهم، وتأييدٌ لما أشير إليه من ترتب المدِّ على سوء اختيارِهم {يَعْمَهُونَ} حال من الضمير المنصوب أو المجرور، لكون المضاف مصدراً فهو مرفوع حكماً، والعَمَهُ في البصيرة كالعمى في البصر، وهو التحيرُ والتردد، بحيث لا يدري أين يتوجه، وإسنادُ هذا المد إلى الله تعالى مع إسناده في قوله تعالى: {وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى} محققٌ لقاعدة أهلِ الحقِ من أن جميعَ الأشياء مستندةٌ من حيث الخلقُ إليه سبحانه، وإن كانت أفعالُ العباد من حيث الكسبُ مستندةً إليهم.
والمعتزلةُ لمّا تعذر عليهم إجراءُ النظم الكريم على مسلكه نكَبوا إلى شعاب التأويل، فأجابوا أولاً بأنهم لما أصرّوا على كفرهم خذلهم الله تعالى ومنعهم ألطافَه، فتزايد الرَّيْنُ في قلوبهم فسُمِّي ذلك مدداً في الطغيان، فأُسند إيلاؤه إليه تعالى، ففي المسند مجازٌ لغوي، وفي الإسناد عقلي، لأنه إسناد للفعل إلى المسبِّب له، وفاعله الحقيقي هم الكفرة، وثانياً بأنه أريد بالمد في الطغيان تركُ القسر والإلجاء إلى الإيمان كما في قوله تعالى: {وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} فالمجاز في المسند فقط، وثالثاً بأن المراد به معناه الحقيقي وهو فعل الشيطان، لكنه أُسند إليه سبحانه مجازاً، لأنه بتمكينه تعالى وإقداره.


{أولئك} إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات الشنيعة المميِّزة لهم عمن عداهم أكملَ تمييز، بحيث صاروا كأنهم حُضّارٌ مشاهِدون على ما هم عليه، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر وسوء الحال، ومحلُه الرفعُ على الابتداء، خبرُه قوله تعالى: {الذين اشتروا الضلالة بالهدى} والجملة مَسوقةٌ لتقرير ما قبلها وبيانٌ لكمال جهالتِهم فيما حُكيَ عنهم من الأقوال والأفعال بإظهار غايةِ سماجتها، وتصويرِها بصورةِ ما لا يكاد يتعاطاه مَنْ له أدنى تمييزٍ فضلاً عن العقلاء. والضلالةُ الجَوْرُ عن القصد، والهدى التوجهُ إليه، وقد استعير الأول للعدول عن الصواب في الدين، والثاني للاستقامة عليه، والاشتراء استبدال السلعة بالثمن، أي أخذُها به لا بذلُه لتحصيلها كما قيل، وإن كان مستلزِماً له، فإن المعتبرَ في عقد الشراء ومفهومِه هو الجلبُ دون السلب الذي هو المعتبرُ في عقد البيع، ثم استعير لأخذ شيءٍ بإعطاء ما في يده عيناً كان كلٌّ منهما أو معنى، لا للإعراض عما في يده محصَّلاً به غيرُه كما قيل، وإن استلزمه لما مر سرُّه، ومنه قوله:
أخذت بالجُمّة رأسا أزعرا *** وبالثنايا الواضحاتِ الدردرا
وبالطويل العُمْرِ عُمْرا جيدرا *** كما اشترى المسلمُ إذ تنصَّرا
فاشتراءُ الضلالة بالهدى مستعارٌ لأخذها بدلاً منه أخذاً منوطاً بالرغبة فيها والإعراض عنه، ولمّا اقتضى ذلك أن يكون ما يجري مجرى الثمن حاصلاً للكفرة قبل العقد وما يجري مجرى المبيعِ غيرَ حاصلٍ لهم إذ ذاك حسبما هو في البيت، ولا ريب في أنهم بمعزل من الهدى، مستمرون على الضلالة استدعى الحالُ تحقيقَ ما جرى مَجرى العِوضَيْن، فنقول وبالله التوفيق:
ليس المرادُ بما تعلق به الاشتراءُ ههنا جنسَ الضلالة الشاملةِ لجميع أصناف الكفرة، حتى تكون حاصلةً لهم من قبل، بل هو فردُها الكاملُ الخاصُّ بهؤلاء، على أن اللام للعهد، وهو عَمَهُهم المقرونُ بالمد في الطغيان، المترتبُ على ما حُكي عنهم من القبائح. وذلك إنما يحصُل لهم عند اليأس عن اهتدائهم والختم على قلوبهم، وكذا ليس المرادُ بما في حيز الثمن نفسَ الهدى بل هو التمكنُ التام منه بتعاضد الأسباب، وتأخذ المقدماتُ المستتبِعةُ له بطريق الاستعارة كأنه نفس الهدى بجامعِ المشاركة في استتباعِ الجدوى، ولا مرية في أن هذه المرتبة من التمكن كانت حاصلةً لهم بما شاهدوه من الآيات الباهرة والمعجزاتِ القاهرةِ من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وبما سمعوه من نصائحِ المؤمنين التي من جُملتِها ما حكي من النهي عن الإفساد في الأرض، والأمرُ بالإيمان الصحيح، وقد نبذوها وراء ظهورهم، وأخذوا بدلها الضلالة الهائلةَ التي هي العمهُ في تيه الطغيان، وحملُ الهدى على الفطرة الأصلية الحاصلة لكل أحد يأباه أَنَّ إضاعتَها غيرُ مختصة بهؤلاء، ولئن حملت على الإضاعة التامة الواصلة إلى حد الختم على القلوب المختصة بهم فليس في إضاعتها فقط من الشناعة ما في إضاعتها مع ما يؤيدها من المؤيدات العقليةِ والنقلية، على أن ذلك يُفضي إلى كون ذكر ما فُصّل من أول السورة الكريمة إلى هنا ضائعاً، وأبعدُ منه حملُ اشتراء الضلالة بالهدى على مجرد اختيارها عليه من غير اعتبار كونه في أيديهم، بناءً على أنه يستعمل اتساعاً في إيثار أحدِ الشيئين الكائنين في شرَف الوقوع على الآخر، فإنه مع خلوِّه عن المزايا المذكورة بالمرة مُخِلٌّ برونق الترشيح الآتي، هذا على تقدير جعل الاشتراءِ المذكور عبارةً عن معاملتهم السابقة المحكية وهو الأنسبُ بتجاوب أطرافِ النظم الكريم.
وأما إذا جُعل ترجمةً عن جناية أخرى من جناياتهم فالمراد بالهدى ما كانوا عليه من معرفة صحةِ نبوةِ النبي صلى الله عليه وسلم وحقِّيةِ دينه، بما كانوا يشاهدونه من نعوته عليه الصلاة والسلام في التوراة وقد كانوا على يقين منه حتى كانوا يستفتحون به على المشركين ويقولون اللهم انصرنا بالنبي المبعوثِ في آخر الزمان الذي نجد نعتَه في التوراة، ويقولون لهم قد أظل زمانُ نبيَ يخرُجُ بتصديق ما قلنا فنقتلُكم معه قتلَ عاد وإِرَم، فلما جاءهم ما عَرَفوا كفروا به كما سيأتي ولا مَساغَ لحملِ الهدى على ما كانوا يُظهرونه عند لقاء المؤمنين فإنها ضلالة مضاعفة.
{فَمَا رَبِحَت تجارتهم} عطفٌ على الصلة داخلٌ في حيزها والفاء للدلالة على ترتب مضمونِه عليها، والتجارةُ صناعة التجار، وهو التصدي للبيع والشراءِ لتحصيل الربح، وهو الفضلُ على رأس المال، يقال: ربِحَ فلان في تجارته أي استشفّ فيها وأصاب الربح، وإسناد عدمِه الذي هو عبارةٌ عن الخسران إليها، وهو لأربابها بناءً على التوسع المبني على ما بينهما من الملابسة، وفائدتُه المبالغةُ في تخسيرهم لما فيه من الإشعار بكثرة الخَسار وعمومِه المستتبع لسرايته إلى ما يُلابِسُهم، وإيرادُهما إثرَ الاشتراء المستعار للاستبدال المذكور ترشيحٌ للاستعارة، وتصويرٌ لما فاتهم من فوائدِ الهدى بصورة خسارةِ التجارة الذي يتحاشى عنه كلُّ أحد للإشباع في التخسير والتحسين، ولا ينافي ذلك أن التجارة في نفسها استعارةٌ لانهماكهم فيما هم عليه من إيثار الضلالة على الهدى وتمرّنُهم عليه معرفةٌ عن كون ذلك صناعةً لهم راسخة، إذ ليس من ضروريات الترشيح أن يكون باقياً على الحقيقة، تابعاً للاستعارة لا يقصد به إلا تقويتُها، كما في قولك: رأيت أسداً وافيَ البراثن، فإنك لا تريد به إلا زيادة تصويرٍ للشجاع، وأنه أسد كاملٌ من غير أن تريد بلفظ البراثن معنىً آخرَ، بل قد يكون مستعاراً من ملائم المستعارِ منه لملائم المستعار له ومع ذلك يكون ترشيحاً لأصل الاستعارة كما في قوله:
فلما رأيتُ النَّسرَ عَزَّ ابنَ دأْية *** وعششَّ في وَكْرَيه جاش له صدري
فإن لفظ الوَكرين مع كونه مستعاراً من معناه الحقيقي الذي هو موضعٌ يتخذه الطائر للتفريخ للرأس واللحية أو للفَوْدين أعني جانبي الرأس ترشيحٌ باعتبار معناه الأصلي، لاستعارة لفظِ النسر للشيب، ولفظ ابن دأية للشعر الأسود، وكذا لفظُ التعشيش مع كونه مستعاراً للحلول والنزول المستمِرَّين ترشيحٌ لتينك الاستعارتين بالاعتبار المذكور، وقرئ {تجاراتُهم}، وتعدُّدها لتعدد المضاف إليهم {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} أي إلى طرق التجارة، فإن المقصود منها سلامةُ رأس المال مع حصول الربح، ولئن فات الربح في صفقة فربما يُتدارَك في صفقة أخرى لبقاء الأصل، وأما إتلافُ الكل بالمرة فليس من باب التجارة قطعاً فهؤلاء الذين كان رأسُ مالهم الهدى قد استبدلوا بها الضلالة فأضاعوا كلتا الطِّلْبتين، فبقُوا خائبين خاسرين نائين عن طريق التجارة بألف منزلٍ، فالجملة راجعة إلى الترشيح معطوفةٌ على ما قبلها مشاركةٌ له في الترتب على الاشتراء المذكور والأَوْلى عطفُها على اشتروا الخ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8